المرايا المقلوبة.. في المسرح!
المسرح لم يكن تلك المرآة السالبة التي عهدناها، حين تتعدد الرؤى حسب رؤية كل مخرج، إنما الرؤية اليوم لم تكن لمخرج ولا لعمل، بل كانت للمسرح ذاتهكنا وما زلنا نعتقد أن المسرح مرآة محدبة أو مقعرة، تجمع على قوس ساحتها ما هو ناتج ومعاش في الواقع والمحيط. ولكنه تفتق سؤال ملح ومقلق، أين تكمن المرآة وأين قوسها في يومنا هذا؟
والسؤال هنا ينبع من هذه التفاعلية الأخاذة في عطاء المسرح! فلم يكن المسرح مجرد دار للهو والإضحاك - كما يعتقد البعض - بقدر ما هو ذلك المارد الجبار الذي ينخر في ذواتنا، يخرج بواطنها ثم ينثرها على صفحاته، ولهذا تبادر لنا ذلك التساؤل.!
فالمرايا (أربعة أشكال وأوضاع معروفة: المرآة العادية حينما تكون مفردة تعكس كل ما يوجد أمامها في صدق وأمانة دون تزييف أو تشويه أو مبالغة. أما المرآتان المتوازيتان فـتقدمان صورا لا نهائية لكل ما يقع بينهما في متاهة خداعة ووهمية، والمرآة المقعرة تقوم بتصغير الأشياء بشكل مخل يشوه حقيقتها. والمرايا المحدبة تقوم بتكبير كل ما يوجد أمامها وتزييفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة. قد تقوم المرآة بتضخيم الرأس أو الساق أو منطقة الوسط والقلب، ولكنها وبصرف النظر عن زاوية الانعكاس تبالغ في حقيقة الشيء وتزييف حجمه الطبيعي! وقد وقف أمامها الحداثيون جميعا، دون استثناء الأصليين منهم والناقلين لفترة كانت كافية لإقناعهم بأن صورهم في المرايا هي حقائقهـم، وذلك على وجه التحديد كما يقول الحداثيون أنفسهم، وبرغم تسليمنا لهذا المصطلح بعد تداوله وتقنياته، وجدت نفسي الآن غير قادرة على الهروب من تحديد مكان سطح هذه الآلة، أهو المسرح بماله وما عليه (خشبة العرض) أم ذواتنا نحن، لنكون سطحا محدبا أو مقعرا أو متوازيا أو عاديا للمسرح اللاعب الباعث على الدوام لكل الأسئلة غير القادرة على الهرب من محاولة تحديد سطح المرآة ومكامن إحداثياتها، أمقعرة هي أم محدبة؟
ولقد ظهرت مدارس ومناهج للتحليل والتفسير لطرق وحرفيات التقنية المسرحية أيضا، إلا أن المبدعين لا يلقون لها بالاً باعتبار أنها لا تخص إلا النقاد دون غيرهم!.
فقد كنت في محادثة مع إحدى صديقاتي وهي مبدعة، وحدثتها عن المدارس، فكان ردها وفورا وبدون تردد: “أنا لا ألقي بالا للمدارس النقدية! وهذا واجب لدى المبدع لحظة الإبداع ألا يبدع بالقلم والمسطرة”. إلا أن ما أثار دهشتي هو كيف أن المبدع يعتقد أن هذه المدارس والمناهج لا تخص إلا النقاد فحسب، وأن كل ما يرد من قول ومن خط ومن كلمة في الكتب والمكتبات لا يخص إلا النقاد فحسب؛ دون أن يلقي المبدع لها أي انتباه، والتي هي عصب تطور إبداعه وتطور مدارج خياله على أي حال.
لقد حظيت المرايا في الإبداع بنصيب وافر من البحث والدراسة في النصف الثاني من القرن العشرين. وعن وظيفتها يقول عبدالعزيز حمودة، في كتابه (المرايا المحدبة): “ظللت أربع سنوات كاملة، هي المدة التي استغرقتها القراءة المتعمقة... فجأة، في مرحلة ما من الكتابة، فرضت فكرة المرايا المحدبة والصور التي تعكسها، نفسها عليّ فرضا.. وتأكدت أن صورة المرايا المحدبة هي الفكرة المحورية”. فهل هناك مرايا أخرى نستطيع أن نكتشفها؟!
لقد تعودنا أثناء التحليل والنقد أن نرصد صورا من خلال أعمال نحددها، لكننا الآن نكون مرايا للمسرح فيقلب فينا تحركاته دون هوادة وعلى غفلة منا!
كنا لجان تحكيم في أحد المهرجانات المصرية، وأتيحت لنا الفرصة من خلال مشاهدة التصعيد ثم المتابعة ثم التحكيم النهائي في هذا المهرجان لمشاهدة ما يربو على 300عرض مسرحي، وكانت العروض من مناطق متباعدة ومختلفة ولم تحدد يتيمة معينة لهذا المهرجان، ولهذا كانت تحوي كثيرا من التنوع والتعدد. وكان ذلك في العام المنصرم.
ومن خلال الرصد والتحليل استبان أن هناك ثيمة مسيطرة على كل هذه العروض، وهي رفض الواقع بما له وما عليه، خاصة وأن مصر في هذه الفترة 2011- 2012 كانت تموج بالعديد من القضايا وعدم الاستقرار على قضية منها، سواء بالسلب أو الإيجاب.
وفي هذا المقام أقيم المهرجان نفسه (مهرجان آفاق المسرح) 2013-2014 وتعاد الكرة مرة أخرى ويتجلى فيه ما تمر به البلاد من التقلبات التي لا تلوى على شيء سوى ثيمة رفض الواقع التي كانت مسيطرة وواضحة في كل هذه العروض!
فالمسرح لم يكن تلك المرآة السالبة التي عهدناها، تعرض دون هوادة ما يحمله العمل وما تضج به جوانبه، حينها تتعدد الرؤى حسب رؤية كل مخرج! إنما الرؤية اليوم لم تكن لمخرج ولا لعمل بل كانت للمسرح ذاته، الذي جمع ما يقرب من ثلاثمئة عرض في مرآة واحدة وعلى سطح مقلوب نحن قوسها ويقرأنا هو كيفما يرى. لأن الصورة أو الرؤية لم تعد متنوعة بنوع مخرجيها بل كانت صورة واحدة وثيمة مسيطرة على ما شاهدناه من تلك الأعمال، ألا وهي ثيمة “التيه” يقرأنا المسرح ويعرض لنا صورة واحدة من الواقع الذي يعتمل في كل النفوس التي أبدعت، دون أن تكون قاصدة لتصدير هذه الصورة فكان هو السيد. فقد تنوعت الأعمال ولكن جميعها اتحدت في صورة “التيه”، فكانت الأمكنة كلها تتنوع بين “الفلاوات”، والبذخ، والفلاءات الرحبة دون تحديد، وغير ذلك من الأمكنة الدالة على عوالم غير معروفة أو منتقاة، فسيطرت صورة واحدة على العروض التي تبحث عن مخرج من المفازة، فأصبحنا نحن مرآتها العاكسة للمسرح، فلم نعد نحن القراء بقدر ما أصبح قارئًا على حين غِرة.
ملحة عبدالله
2013-10-25 1:35 AM
والسؤال هنا ينبع من هذه التفاعلية الأخاذة في عطاء المسرح! فلم يكن المسرح مجرد دار للهو والإضحاك - كما يعتقد البعض - بقدر ما هو ذلك المارد الجبار الذي ينخر في ذواتنا، يخرج بواطنها ثم ينثرها على صفحاته، ولهذا تبادر لنا ذلك التساؤل.!
فالمرايا (أربعة أشكال وأوضاع معروفة: المرآة العادية حينما تكون مفردة تعكس كل ما يوجد أمامها في صدق وأمانة دون تزييف أو تشويه أو مبالغة. أما المرآتان المتوازيتان فـتقدمان صورا لا نهائية لكل ما يقع بينهما في متاهة خداعة ووهمية، والمرآة المقعرة تقوم بتصغير الأشياء بشكل مخل يشوه حقيقتها. والمرايا المحدبة تقوم بتكبير كل ما يوجد أمامها وتزييفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة. قد تقوم المرآة بتضخيم الرأس أو الساق أو منطقة الوسط والقلب، ولكنها وبصرف النظر عن زاوية الانعكاس تبالغ في حقيقة الشيء وتزييف حجمه الطبيعي! وقد وقف أمامها الحداثيون جميعا، دون استثناء الأصليين منهم والناقلين لفترة كانت كافية لإقناعهم بأن صورهم في المرايا هي حقائقهـم، وذلك على وجه التحديد كما يقول الحداثيون أنفسهم، وبرغم تسليمنا لهذا المصطلح بعد تداوله وتقنياته، وجدت نفسي الآن غير قادرة على الهروب من تحديد مكان سطح هذه الآلة، أهو المسرح بماله وما عليه (خشبة العرض) أم ذواتنا نحن، لنكون سطحا محدبا أو مقعرا أو متوازيا أو عاديا للمسرح اللاعب الباعث على الدوام لكل الأسئلة غير القادرة على الهرب من محاولة تحديد سطح المرآة ومكامن إحداثياتها، أمقعرة هي أم محدبة؟
ولقد ظهرت مدارس ومناهج للتحليل والتفسير لطرق وحرفيات التقنية المسرحية أيضا، إلا أن المبدعين لا يلقون لها بالاً باعتبار أنها لا تخص إلا النقاد دون غيرهم!.
فقد كنت في محادثة مع إحدى صديقاتي وهي مبدعة، وحدثتها عن المدارس، فكان ردها وفورا وبدون تردد: “أنا لا ألقي بالا للمدارس النقدية! وهذا واجب لدى المبدع لحظة الإبداع ألا يبدع بالقلم والمسطرة”. إلا أن ما أثار دهشتي هو كيف أن المبدع يعتقد أن هذه المدارس والمناهج لا تخص إلا النقاد فحسب، وأن كل ما يرد من قول ومن خط ومن كلمة في الكتب والمكتبات لا يخص إلا النقاد فحسب؛ دون أن يلقي المبدع لها أي انتباه، والتي هي عصب تطور إبداعه وتطور مدارج خياله على أي حال.
لقد حظيت المرايا في الإبداع بنصيب وافر من البحث والدراسة في النصف الثاني من القرن العشرين. وعن وظيفتها يقول عبدالعزيز حمودة، في كتابه (المرايا المحدبة): “ظللت أربع سنوات كاملة، هي المدة التي استغرقتها القراءة المتعمقة... فجأة، في مرحلة ما من الكتابة، فرضت فكرة المرايا المحدبة والصور التي تعكسها، نفسها عليّ فرضا.. وتأكدت أن صورة المرايا المحدبة هي الفكرة المحورية”. فهل هناك مرايا أخرى نستطيع أن نكتشفها؟!
لقد تعودنا أثناء التحليل والنقد أن نرصد صورا من خلال أعمال نحددها، لكننا الآن نكون مرايا للمسرح فيقلب فينا تحركاته دون هوادة وعلى غفلة منا!
كنا لجان تحكيم في أحد المهرجانات المصرية، وأتيحت لنا الفرصة من خلال مشاهدة التصعيد ثم المتابعة ثم التحكيم النهائي في هذا المهرجان لمشاهدة ما يربو على 300عرض مسرحي، وكانت العروض من مناطق متباعدة ومختلفة ولم تحدد يتيمة معينة لهذا المهرجان، ولهذا كانت تحوي كثيرا من التنوع والتعدد. وكان ذلك في العام المنصرم.
ومن خلال الرصد والتحليل استبان أن هناك ثيمة مسيطرة على كل هذه العروض، وهي رفض الواقع بما له وما عليه، خاصة وأن مصر في هذه الفترة 2011- 2012 كانت تموج بالعديد من القضايا وعدم الاستقرار على قضية منها، سواء بالسلب أو الإيجاب.
وفي هذا المقام أقيم المهرجان نفسه (مهرجان آفاق المسرح) 2013-2014 وتعاد الكرة مرة أخرى ويتجلى فيه ما تمر به البلاد من التقلبات التي لا تلوى على شيء سوى ثيمة رفض الواقع التي كانت مسيطرة وواضحة في كل هذه العروض!
فالمسرح لم يكن تلك المرآة السالبة التي عهدناها، تعرض دون هوادة ما يحمله العمل وما تضج به جوانبه، حينها تتعدد الرؤى حسب رؤية كل مخرج! إنما الرؤية اليوم لم تكن لمخرج ولا لعمل بل كانت للمسرح ذاته، الذي جمع ما يقرب من ثلاثمئة عرض في مرآة واحدة وعلى سطح مقلوب نحن قوسها ويقرأنا هو كيفما يرى. لأن الصورة أو الرؤية لم تعد متنوعة بنوع مخرجيها بل كانت صورة واحدة وثيمة مسيطرة على ما شاهدناه من تلك الأعمال، ألا وهي ثيمة “التيه” يقرأنا المسرح ويعرض لنا صورة واحدة من الواقع الذي يعتمل في كل النفوس التي أبدعت، دون أن تكون قاصدة لتصدير هذه الصورة فكان هو السيد. فقد تنوعت الأعمال ولكن جميعها اتحدت في صورة “التيه”، فكانت الأمكنة كلها تتنوع بين “الفلاوات”، والبذخ، والفلاءات الرحبة دون تحديد، وغير ذلك من الأمكنة الدالة على عوالم غير معروفة أو منتقاة، فسيطرت صورة واحدة على العروض التي تبحث عن مخرج من المفازة، فأصبحنا نحن مرآتها العاكسة للمسرح، فلم نعد نحن القراء بقدر ما أصبح قارئًا على حين غِرة.
ملحة عبدالله
2013-10-25 1:35 AM
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=18697